أسعدنى نشر «الوطن» لديوان أحلام الفارس القديم بخط صلاح عبدالصبور، ووجدت فيه سنة حميدة كنت قد ناديت بها من قبل فى صورة اقتراح بمشروع اسمه «مسودة الإبداع»، نبحث فيه عن مسودات المبدعين الكبار لدراستها وليس لوضعها فى المتحف. عاشق أنا لقراءة مسودات الأعمال الأدبية الكلاسيكية، ومشاهدة اسكتشات اللوحات الشهيرة، أو ما يسمونه «ماكينج» أو «الأعمال التحضيرية للعمل الفنى»، وللأسف كل ما حصلت عليه هو مسودات منشورة لمبدعين أجانب، أما الشعراء والكتاب العرب فلم تصادفنى تقريباً إلا بعض مسودات أشعار نزار قبانى، وكانت غير منشورة فى كتاب، بل متناثرة فى بعض المجلات الأدبية. متعة ذهنية أن ترى تشكل العمل وتخليقه منذ أن كان جنيناً فى رحم عقل المبدع: لماذا شطب الشاعر هذه الكلمة من هذا البيت؟ وكيف أثّرت الجملة التى أضافها الروائى فى هندسة وبناء الرواية؟ كيف نسج القصاص هذه الشخصية ولماذا أهملها هنا ثم كثّف الضوء عليها هناك؟ لماذا حذف الفنان التشكيلى هذا الخط وأضاف هذا الظل وروى عطش اللوحة فى هذا المكان أو الزاوية بالذات باللون الأزرق أو الأصفر وجفف منابع اللون الأحمر فى مكان وزاوية أخرى، ولماذا قرر أن يحتل هذا المشهد مقدمة الصورة ليتوارى مشهد آخر فى خلفية الصورة؟ نشوة عقلية أن تدلف إلى تلافيف مخ المبدع وتقتحم لا وعيه فى رحلة كاشفة للألغاز الفنية، تلعب «شطرنج» مع الفنان وتسرق منه «باسوورده» الإبداعى وتدخل «هارد ديسكه» السرى لتسبح فى عملية الخلق الفنية الساحرة من المصب إلى المنبع. ما شطبه «ت. س. إليوت» من قصيدة «الأرض الخراب» فى نفس أهمية ما نشره، مسودات قصص «كافكا» من الممكن أن تشخص من خلالها حالته النفسية والمزاجية وتفك ألغاز سوداويته المزمنة، اسكتشات «فان جوخ» التى رسمها للغربان وحقل القمح قبل انتحاره وضربات فرشاته المحمومة حتماً ستقودك إلى توقع نهايته المأساوية، تحضيرات «دافنشى» تشير إلى عبقرية بدون سقف تحتار معها وتتساءل: هل كان من الممكن أن تكون اللوحة بشكل آخر غير ما رسمه هذا الإعجاز الذى يمشى على قدمين المدعو ليوناردو دافنشى؟!! لماذا لا ينشر المبدعون العرب مسودات أعمالهم الفنية؟ هل هو الخوف من أن يضبطهم القراء متلبسين بالخطأ والتردد والشطب والحذف؟ كنت أتمنى أن أقرأ كيف رسم نجيب محفوظ شخصية كمال عبدالجواد فى الثلاثية، وماذا حذف منها؟ عندى فضول شديد لرصد السطور التى اختزلها يوسف إدريس فى قصصه الرمزية بعد هزيمة 67 لفك شفرة تلك الرموز، أحاول رؤية آبار إبداع صلاح جاهين فى الفترة نفسها وهو يشطب أبياتاً ويبكى عند أعتاب أبيات أخرى متردداً بين تمجيد نظام هزمنا وإيمانه بجدوى هذا النظام الذى شارك فى تجميل ملامحه.. لدىّ يقين بأن ما يلقيه المبدعون فى سلة القمامة من أوراق بعد الكلفتة فى لحظة عصبية خوفاً من أن يخاصمهم وحى الإبداع، هو كنز على بابا الإبداعى الملىء بالياقوت والمرجان واللؤلؤ. المسودة تساعدنا على اقتناص لحظة الإبداع المراوغة الإغوائية المستعصية على الصيد.